بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد الفاتح الخاتم الناصر الهادي، وعلى آله وصحبه وسلم.
المعروف أن الكتب الثلاثة المتعلقة بالطريقة التجانية والتي كتبت في عهد سيدنا الشيخ رضي الله تعالى عنه، وهي جواهر المعاني، والجامع وروض المحب الفاني، معظم إملاءاتها ومضامينها كتبت في الصحراء، بين دير أبي سمغون والشلالة وعين ماضي، ولم يكتب منها بمدينة فاس سوى النزر القليل.
وبعبارة أخرى فالطريقة التجانية بزغ نورها بدير أبي سمغون عام 1196هـ، وكان سن سيدنا الشيخ رضي الله عنه حينها 46 سنة، وبهذا يتبين لنا أن المدة التي قضاها سيدنا الشيخ رضي الله عنه من حياته على رأس طريقته الشريفة هي 34 سنة، قضى نصفها الأول وهو 17 سنة في الصحراء، أما نصفها الثاني وهو نفس القدر من السنين أيضا فقد قضاه مستوطنا بمدينة فاس العاصمة العلمية والإدراية للمغرب حينذاك.
الذي نريد أن نشير إليه من خلال هذا المشهد أن مؤلفات الطريقة الثلاث، والتي هي من آكد مصادر طريقتنا إلى اليوم كتبت عن آخرها في النصف الأول من ظهور الطريقة، أي قبل استقرار سيدنا الشيخ رضي الله عنه بمدينة فاس عام 1213هـ.
ونستثني من هذا شذرات قليلة على رؤوس الأصابع لا غير كتبت بفاس، وتبقى حصة الأسد من تراث الطريقة وقواعدها وأصولها ومضامينها للفترة الأولى التي هي فترة تواجده رضي الله عنه بالصحراء، مع العلم أن فترة الصحراء هي الأخرى لم يدون فيها كل شيء، بدليل إشارة الخليفة المعظم سيدي الحاج علي حرازم في كتابه الجواهر على أن نسبة ما ذكره مما أغفله هو نزر يسير، وقليل من كثير.
لكن شتان بين الفترة التي قضاها سيدنا الشيخ رضي الله عنه بالصحراء والفترة الثانية التي قضاها بمدينة فاس، لا قياس مع وجود الفارق، فالفترة الأخيرة هي الأكثر توهجا ولمعانا بالنسبة لسيدنا الشيخ رضي الله عنه، لأنه أدرك فيها القطبانية العظمى، والمرتبة الختمية والكتمية. وبهذا فالفترات السابقة من حياته رضي الله عنه لا تقاس بهذه الفترة أصلا، فهي فترة ذهبية وعلى أعلى مستوى.
غير أن هذه الفترة الذهبية الأخيرة من حياة سيدنا الشيخ رضي الله عنه لم تدون إطلاقا، بل عاشت على أدبيات وتآليف الفترة الأولى [ فترة الصحراء ] ويعزو بعض المؤرخين هذا لوفاة وغياب بعض كبار الأصحاب، وعلى رأسهم العارف بالله الكبير سيدي الحاج علي حرازم برادة الفاسي، الذي خرج من مدينة فاس عام 1215هـ، وتوفى بموقع بدر قرب المدينة المنورة عام 1218هـ، وأيضا العلامة الشهير سيدي محمد بن المشري السباعي الذي عرفت حياته تقلبات كثيرة بين الصحراء ومدينة فاس، وتوفى هو الآخر بعيدا بقرية عين ماضي عام 1224هـ، أي قبل وفاة سيدنا الشيخ رضي الله عنه بست سنوات.
وعن هذا الموضوع يقول العلامة سيدي أحمد سكيرج في بعض تقاييده: ولو تأخرت حياة الخليفة المعظم سيدي الحاج علي حرازم قليلا إلى عشر سنوات أخرى، وبقي إلى جانب سيدنا الشيخ رضي الله تعالى عنه بفاس لجمع لنا من إملاءاته رضي الله عنه وعلومه وفهومه ومداركه وفتوحاته ومعارفه ولطائفه وإشاراته ما لا تحيط به العقول، ولا تستوعبه النقول، ولكن قدر الله تعالى وما شاء فعل.
وقال العلامة المذكور أيضا في التقييد نفسه: حصل هناك تفريط من طرف بعض العلماء في تدوين مقالات وإملاءات سيدنا الشيخ رضي الله عنه، وذلك إبان تواجده بالعاصمة الإدريسية [فاس] ومرد ذلك للحياء التام الذي كان يشعر به بعضهم اتجاهه، ولعدم وعي البعض الآخر بضرورة توثيق أخباره وفتاويه ومضامين ما يسمعونه منه من نصائح وتوجيهات وغيرها، بينما نحا البعض الآخر إلى الإكتفاء بما جمع ودون في الفترة الأولى التي هي فترة تواجده رضي الله عنه بالصحراء.
وعموما فسيدنا الشيخ رضي الله عنه كان إبان هذه الفترة التي عاشها بمدينة فاس في أوج نشاطه العلمي والمعرفي، بل كان وبالوراثة صهريج علم لا نهاية لمعارفه وفيوضاته، ومن هذا القبيل ما ذكره العلامة الحافظ الحجة سيدي محمد الحجوجي الحسني في الجزء الأول من كتابه إتحاف أهل المراتب العرفانية، بتراجم بعض رجال الطريقة التجانية … ضمن ترجمة العلامة سيدي أحمد بناني [والد العلامة سيدي أحمد بناني كلا] قال: وكان صاحب الترجمة يقول : كان مولانا الشيخ رضي الله عنه يملي علي من العلوم في بعض الأحيان حتى أعد نفسي بربريا من كثرة غوصه على الحقائق.
ولا ننسى أن الكتاب الوحيد الذي جمع في هذه الفترة الأخيرة هو كتاب الإفادة الأحمدية، لمريد السعادة الأبدية، للشريف البركة سيدي الطيب السفياني رحمه الله ورضي عنه، وإن كان هذا الكتاب لا يرقى لمستوى المؤلفات الثلاثة الأولى فإن أهميته لكبيرة من حيث الفترة الزمنية التي دونها، بالرغم من كون تدوينه لها على شكل بلاغات ومقالات قصيرة لا غير.
وجدير بالملاحظة أن من جملة مؤلفات العلامة الحجة الحافظ سيدي محمد الحجوجي كتاب جمع فيه ما ثبت عنده من فتاوي وإملاءات ومقالات سيدنا الشيخ رضي الله عنه بمدينة فاس، وقد وقفت عليه وقرأت فقرات كثيرة منه بدار نجل المؤلف شيخنا سيدي محمد ، وللأسف فقد تم عرض هذا الكتاب على مائدة طويلة ضمن المخطوطات التي شاركت في فعاليات المؤتمر الأول للطريقة التجانية بمدينة فاس عام 1983م، وذلك من طرف نجل المؤلف المذكور، وبعد نهاية المؤتمر وإعادة الكتب المعروضة إلى أصحابها دخل هذا الكتاب في خبر كان، فلم نجد له أثرا إلى يومنا هذا، بالرغم من بحثنا الطويل عنه وعلى مدى سنوات، ولله الأمر من قبل ومن بعد.