Written by 7:17 ص أصول الطريقة

مقطع من كتاب الإيمان الصحيح للعلامة سيدي أحمد بن العياشي سكيرج رضي الله عنه

المَبْحَثُ الثَّانِي مَنُوطٌ بِمَا جَعَلَهُ البَغِيضُ ابْنُ بَادِيسَ مِنْ ادِّعَاءِ التِّجَانِيِّينَ كَوْنَ صَلَاةِ الفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ القَدِيمِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ثَوَابُهَا إِلَّا لِمَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ، وَإِنْكَارُ البَغِيضِ لِذَلِكَ وَالرَّدُّ عَلَيْهِ

كُلُّ مَنْ خَالَطَ التَّصَوُّفَ وَالصُّوفِيَّةَ وَسَلَكَ وَلَوْ قَدَماً فِي طَرِيقَةِ الجُنَيْدِ السَّالِكِ عَلِمَ مَا لِأَكَابِرِهِمْ مِنْ مُكَالَمَتِهِمْ لِلْحَقِّ وَمُكَالَمَةِ الحَقِّ لَهُمْ.

وَقَدْ شَاعَ عَنْهُمْ ذَلِكَ، وَصَدَرَ مِنْهُمْ فِي المَنَامِ وَاليَقَظَةِ وَحَدَّثُوا بِهِ وَحَدَّثَ النَّاسُ عَنْهُمْ، وَتَمَنَّى أَنْ تَقَعَ لَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، حَتَّى أَنَّ أَبَا الحَسَنِ الشَّاذِلِي الَّذِي أَجْمَعَ أَهْلُ الفَضْلِ عَلَى فَضْلِهِ وَوِلَايَتِهِ قَالَ فِي حِزْبِهِ الكَبِيرِ الَّذِي يُقَالُ عَنْهُ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يُؤَلِّفْهُ إِلَّا عَنْ إِذْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا نَصُّهُ فِي مُخَاطَبَةِ الحَقِّ: (وَهَبْ لَنَا مُشَاهَدَةً، تَصْحَبُهَا مُكَالَمَةٌ). فَلَوْلَا تَحَقُّقُهُ بِوُقُوعِ هَذِهِ المُكَالَمَةِ مَا سَأَلَهَا

ــ عَنْ مُكَالَمَاتِ الحَقِّ لِلْعَارِفِينَ قَالَ فِي جَوَاهِرِ المَعَانِي وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنِ المُكَالَمَةِ لِلْعَارِفِينَ فِي هَذَا المَقَامِ، لَيْسَ يَسْمَعُونَ كَلَامَ الذَّاتِ المُقَدَّسَةِ الَّذِي هُوَ المَعْنَى القَائِمُ بِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ بِصَرِيحِ الآيَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً) مَا عَدَا سَيِّدَنَا مُوسَى، وَسَيِّدَنَا مُحَمَّداً عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، سَمِعَا المَعْنَى القَائِمَ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا المُكَالَمَةُ المَعْلُومَةُ لِلْعَارِفِينَ، فَإِنَّهُ يَخْلُقُ فِيهِمْ كَلَامَهُ فِي الرُّوحِ، إِذَا صَارَتْ خَفَاءً أَوْ أَخْفَى أَوْ سِرّاً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ المَرَاتِبِ، يَخْلُقُ فِي ذَلِكَ المَعْنَى كَلَاماً يَعْنِي فِي الرُّوحِ، لَا يَشُكُّ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.

فَنِسْبَةُ ذَلِكَ الكَلَامِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، نِسْبَةُ الحَادِثِ إِلَى المُحْدِثِ، وَنِسْبَةُ المَخْلُوقِ إِلَى الخَالِقِ، لَا نِسْبَةَ الكَلَامِ إِلَى المُتَكَلِّمِ، وَيُنْسَبُ الكَلَامُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا المَحَلِّ، لِكَوْنِ ذَلِكَ المَحَلِّ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ، لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ غَلَطٌ وَلَا تَخْمِينٌ، وَلَا فَسَادٌ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ وُجُوهِ الخَطَأِ، لِأَنَّ الرُّوحَ فِي هَذَا المَحَلِّ يُسَمَّى البَيْتَ المُحَرَّمَ، لِكَوْنِهِ حُرِّمَ عَلَى غَيْرِ الحَقِّ دُخُولُهُ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الكَلَامَ عِنْدَ وُرُودِهِ عَلَى العَبْدِ، مُخْتَطَفٌ عَنْ دَائِرَةِ حِسِّهِ وَشُهُودِهِ، وَعِلْمِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، فَلَا يَعْقِلُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَلَا يُحِسُّ إِلَّا بِوُجُودِ الحَقِّ مَمْحُوّاً وَمَمْحُوقاً عَنْ غَيْرِهِ.

يَتَدَلَّى لَهُ فِي هَذَا التَّجَلِّي مِنْ نُورِ القُدُسِ، وَالسِّرِّ السَّرْمَدِيِّ مِنَ الكَلَامِ، مَا يَكُونُ وَاسِطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ المَعْنَى القَائِمِ بِالذَّاتِ، وَيُدْرِكُ لَهُ مِنَ اللَّذَّاتِ، مَا يُدْرِكُهُ عِنْدَ سَمَاعِ المَعْنَى القَائِمِ بِالذَّاتِ العَلِيَّةِ، فَيُطْلِقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ، مِثَالُهُ فِي الشَّاهِدِ مِثَالُ النَّائِمِ، بِأَنْ يُخْبِرَ النَّائِمَ بِالغُيُوبِ وَيُوحِيهَا إِلَيْهِ لَا بِعَيْنِ التَّصْرِيحِ، وَلَكِنْ بِوَاسِطَةِ مِثَالٍ يُلْقِيهِ إِلَيْهِ فِي النَّوْمِ فَيَقُولُ لَهُ المُعَبِّرُ لَهُ فِي الرُّؤْيَا العَالِمُ بِهَا: إِنَّ رُؤْيَاكَ تَدُلُّ عَلَى كَذَا وَكَذَا مِنَ الغَيْبِ أَوْ الخَبَرِ.

فَالعِلْمُ بِذَلِكَ الغَيْبِ فِي النَّوْمِ، لَمْ يَكُنْ لِلنَّائِمِ بِالتَّصْرِيحِ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِوَاسِطَةِ مِثَالٍ أَلْقَاهُ الحَقُّ إِلَيْهِ، وَأَلْقَى إِلَيْهِ مِنَ العِلْمِ بِالغَيْبِ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ المِثَالِ مَا أَلْقَى، فَهَكَذَا تِلْكَ المُكَالَمَةُ، إِنَّمَا هِيَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ المُكَلَّمِ وَبَيْنَ المَعْنَى القَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا المُعَبَّرُ عَنْهُ عِنْدَ العُلَمَاءِ بِالإِلْهَامِ. فَقَدْ اتَّضَحَ الجَوَابُ، أَتَمَّ الإِيضَاحِ، وَانْكَشَفَ الغِطَاءُ وَلَيْسَ فِي طَاقَةِ البَشَرِ، أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، إِذْ لَوْ كَلَّمَهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ لَصَارَ مَحْضَ العَدَمِ، فَجَعَلَ الحَقُّ لَهُ وَاسِطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ المَعْنَى القَائِمِ بِالذَّاتِ العَلِيَّةِ، يُدْرِكُ مِنْهُ مَعَانِي الكَلَامِ الأَزَلِيِّ، وَمِنْ هَذَا البَابِ أُطْلِقَ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى.

وَقَدْ وَقَعَتْ لِأَهْلِ الشَّطَحَاتِ مِنْهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ. وَقَدْ قَالَ الحَقُّ لِابْنِ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ خِتَامِ المِائَةِ خَتْمَةٍ مِنَ القُرْآنِ الَّتِي قَرَأَهَا عَلَيْهِ مَنَاماً طِبْقَ مَا حَدَّثُوا عَنْهُ بِذَلِكَ: [يَا أَحْمَدُ، أَفْضَلُ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيَّ المُتَقَرِّبُونَ كَلَامِي]. قَالَ: يَا رَبِّ، بِفَهْمٍ وَبِغَيْرِ فَهْمٍ. فَقَالَ: بِفَهْمٍ وَبِغَيْرِ فَهْمٍ

وَهَذَا الكَلَامُ، وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ لِلْمُنْتَقِدِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ تِلَاوَتِهِ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا وَلَا زِلْنَا نَقُولُ: الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَيِّ صِيغَةٍ أَفْضَلُ لَهُ فِي السُّلُوكِ مِنَ التِّلَاوَةِ المُصَحَّفَةِ وَالمُحَرَّفَةِ وَالخَالِيَةِ عَنْ آدَابِهَا حَسْبَمَا تَقَدَّمَ لَنَا وَيَأْتِيِ.

نَعَمْ هَذِهِ المَقَالَةُ الَّتِي خُوطِبَ بِهَا الإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ كَلَامِ الرَّبِّ لَهُ. فَإِطْلَاقُ الكَلَامِ عَلَيْهَا مِمَّا يُؤَيِّدُ وُقُوعَ المُكَالَمَةِ لِلْأَوْلِيَاءِ مَنَاماً. وَإِذَا رَأَى العُبَيْدُ رَبَّهُ فِي المَنَامِ وَأَخْبَرَ عَنْ رُؤْيَاهُ، وَقَالَ: كَلَّمَنِي رَبِّي، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ صَادِقاً فِي رُؤْيَاهُ بِإِضَافَةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ كَلَامِ الحَقِّ لَهُ.

وَلَا مَعْنَى لِتَكْذِيبِ المُخْبِرِ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا رَأَى، أُوِّلَ ذَلِكَ عَنْهُ أَوْ لَمْ يُؤَوَّلْ، لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَحْصُورٍ فِي القُرْآنِ، وَلَا فِي بَقِيَّةِ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ، لِأَنَّ القَدِيمَ لَا يُحْصَرُ فِي شَيْءٍ. .

وَقَدْ أَجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الحَقَّ سُبْحَانَهُ مُتَكَلِّمٌ، وَجُمْلَةُ قَوْلِهِمْ هُوَ مُتَكَلِّمٌ فِي قُوَّةِ هُوَ مُكَلِّمٌ غَيْرَهُ عَلَى الدَّوَامِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِمَّنْ قَالَ بِانْقِطَاعِ الوَحْيِ بَعْدَ المَعْصُومِ بِانْقِطَاعِ كَلَامِ الحَقِّ سُبْحَانَهُ، كَمَا أَنَّ العَقِيدَةَ السُّنِّيَّةَ فِي كَوْنِ الحَقِّ تَعَالَى يُكَلِّمُ عِبَادَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَفِي الجَنَّةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حِجَابٌ تَقْضِي بِالإِيمَانِ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُكَلِّمٌ عِبَادَهُ فِي الدُّنْيَا كَمَا يُكَلِّمُهُمْ فِي الآخِرَةِ

  ــ فِعْلاً هَذَا مَا نَعْتَقِدُهُ، وَهُوَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى [القُرْآنَ الكَرِيمَ] هُوَ أَفْضَلُ عِبَادَةٍ يَتَقَرَّبُ بِهَا المُؤْمِنُ إِلَى رَبِّهِ، وَهَذِهِ الرُّؤْيَا المَنْسُوبَةُ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ صَرِيحَةٌ فِي هَذَا الصَّدَدِ، وَقَوْلُهُ فِيهَا [بِفَهْمٍ وَبِغَيْرِ فَهْمٍ] هُوَ بِذَاتِهِ مَا أَشَارَ لَهُ سَيِّدُنَا الشَّيْخُ التِّجَانِي رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي المَرْتَبَتَيْنِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ مِنَ المَرَاتِبِ الأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي مَجَالِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ القُرْآنِ الكَرِيمِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

  ــ إِذَنْ فَالقَاعِدَةُ المُتَّبَعَةُ عِنْدَنَا أَنَّ قِرَاءَةَ القُرْآنِ الكَرِيمِ هِيَ الأَوْلَى وَالأَعْظَمُ وَالأَفْخَمُ، وَلَا تُقَارِبُهَا فِي الفَضْلِ عِبَادَةٌ أُخْرَى كَانَتْ أَيّاً كَانَتْ، سَوَاءٌ كَانَتْ القِرَاءَةُ بِفَهْمٍ أَوْ بِغَيْرِ فَهْمٍ، لَكِنْ شَرِيطَةَ أَنْ تَكُونَ القِرَاءَةُ سَلِيمَةً مِنَ اللَّحْنِ وَالتَّصْحِيفِ مِنْ جِهَةٍ، وَمِنْ جِهَةٍ ثَانِيَةٍ أَنْ لَا يَكُونَ القَارِئُ مُسْرِفاً عَلَى نَفْسِهِ، كَثِيرَ الخَوْضِ فِي المَعَاصِي وَالآثَامِ وَالكَبَائِرِ، فَإِنَّ قِرَاءَتَهُ حِينَهَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا لَهُ.

  ــ قَالَ العَلَّامَةُ سَيِّدِي أَحْمَدُ سُكَيْرِجُ فِي كِتَابِهِ كَشْفِ البَلْوَى، فِي الرَّدِّ عَلَى مَجَلَّةِ التَّقْوَى: اعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى القَدِيمَ غَيْرُ مَحْصُورٍ فِي الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ لِكَوْنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مُتَكَلِّماً دَوَاماً وَاسْتِمْرَاراً. وَكَلاَمُهُ تَعَالَى خَارِجٌ عَمَّا تُصَوِّرُهُ العُقُولُ، لِأَنَّ القَدِيمَ لَا يُدْرِكُ كُنْهَهُ الحَادِثُ. فَجَلَّ اللَّهُ تَعَالَى ذَاتاً وَصِفَاتاً وَأَسْمَاءً أَنْ يُشْبِهَهُ شَيْءٌ. وَكُلُّ مَا يَخْطُرُ فِي خَيَالِكَ فَرَبُّنَا مُخَالِفٌ لِذَلِكَ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) 

وَمَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مَحْصُورٍ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا عَلَى لِسَانِ المَعْصُومِ. وَقَدْ انْقَطَعَ الوَحْيُ بِهِ بِوَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الإِلْهَامُ الدَّاخِلُ فِيهِ مُكَالَمَةُ الأَوْلِيَاءِ. وَهُمْ مَحْمُولُونَ فِيهِ عَلَى الصِّدْقِ، لِأَنَّ كَلَامَ الحَقِّ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْ إِكْرَامِهِ لَهُمْ وَإِجْلَالِهِمْ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُعْجِزَةٌ فِي حَقِّهِمْ. وَقَدْ نَصَّ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُعْجِزَةً فِي حَقِّ نَبِيٍّ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كَرَامَةً فِي حَقِّ وَلِيٍّ

أَنَّ العَقِيدَةَ السُّنِّيَّةَ فِي كَوْنِ الحَقِّ تَعَالَى يُكَلِّمُ عِبَادَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَفِي الجَنَّةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حِجَابٌ تَقْضِي بِالإِيمَانِ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُكَلِّمٌ عِبَادَهُ فِي الدُّنْيَا كَمَا يُكَلِّمُهُمْ فِي الآخِرَةِ

وَتَعَالَى اللَّهُ أَنْ يُكَلِّمَ الأَنْبِيَاءَ قَيْدَ حَيَاتِهِمْ بَلْ وَقَبْلَهَا فَيَسْكُتَ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ يَتَكَلَّمَ فِي الآخِرَةِ، فَإِنَّ السُّكُوتَ دَلِيلٌ عَلَى الحُدُوثِ، وَالحَقُّ مُتَكَلِّمٌ عَلَى الدَّوَامِ، وَلَيْسَتِ المُكَالَمَةُ الوَاقِعَةُ لِأَهْلِ اللَّهِ المَوْجُودَةُ فِي كُتُبِ القَوْمِ بِكَثْرَةٍ مِنْ قَبِيلِ الوَحْيِ بَعْدَ ذَهَابِ النُّبُوَّةِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ قَبِيلِ الكَلَامِ الَّذِي لَازَالَ الحَقُّ مُتَّصِفاً بِهِ مَا بَقِيَ لِلدَّوَامِ دَوَامٌ. فَادِّعَاءُ انْقِطَاعِهِ يُفْضِي بِوَصْفِهِ بِالحُدُوثِ وَتَعَالَى المَوْلَى عَنْ ذَلِكَ.

وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ القُرْآنَ وَسَائِرَ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ وَالأَحَادِيثِ القُدْسِيَّةِ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الحَقِّ. فَلَا جَرَمَ إِذَا كَانَتْ صَلَاةُ الفَاتِحِ مِنْ هَذَا البَابِ المَفْتُوحِ بِمُكَالَمَةِ الحَقِّ لِلْخَلْقِ، وَهُوَ أَمْرٌ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ، وَلَا يَلْزَمُ فِي اعْتِقَادِ كَوْنِهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ نَقْصٌ فِي جَانِبِ الحَقِّ تَعَالَى.

  ــ قَالَ العَلَّامَةُ سَيِّدِي أَحْمَدُ سُكَيْرِجُ فِي بَعْضِ تَقَايِّيدِهِ نَقْلاً عَنْ بَعْضِهِمْ: وَحَقِيقَةُ المُكَالَمَةِ عِنْدَ أَرْبَابِ الحَقَائِقِ كَمَا قِيلَ : خِطَابُ الحَقِّ لِلْعَارِفِينَ مِنْ عَالَمِ المَلَكُوتِ وَالأَسْرَارِ. إهـ.. قَالَ الوَرْتَجْبِي فِي تَفْسِيرِهِ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُسْمِعَ كَلَامَهُ أَحَدًا مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ يُعْطِيهِ سَمْعاً مِنْ سَمْعِهِ فَيَسْمَعُ بِهِ كَلَامَهُ، كَمَا حَكَى النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، الحَدِيثُ، وَلَيْسَ هُنَاكَ الحُرُوفُ وَالأَصْوَاتُ، بَلْ سَمِعَهُ بِحَرْفِ القُدْرَةِ وَصَوْتِ الأَزَلِيَّةِ الَّذِي هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ هَمْهَمَةِ الأَنْفَاسِ، وَخَطَرَاتِ الأَصْوَاتِ.

ــ قَالَ العَلَّامَةُ سَيِّدِي أَحْمَدُ سُكَيْرِجُ فِي كِتَابِهِ كَشْفِ البَلْوَى، فِي الرَّدِّ عَلَى مَجَلَّةِ التَّقْوَى: اخْتَلَفَ الأُصُولِيُّونَ حَوْلَ الإِلْهَامِ الَّذِي يَقَعُ لِسَادَاتِنَا الأَوْلِيَاءِ، هَلْ هُوَ حُجَّةٌ أَوْ لَا؟ قَالَ فِي جَمْعِ الجَوَامِعِ: وَالإِلْهَامُ إِيقَاعُ شَيْءٍ فِي القَلْبِ، يُثْلِجُ لَهُ الصَّدْرَ، يَخُصُّ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَ أَصْفِيَائِهِ. وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ لِعَدَمِ ثِقَةِ مَنْ لَيْسَ مَعْصُوماً بِخَوَاطِرِهِ، خِلَافاً لِبَعْضِ الصُّوفِيَةِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ يَقُولُ بِحُجِّيَّتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) وَبِحَدِيثِ (اتَّقُوا فِرَاسَةَ المُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ) رَوَاهُ التِّرْمِذِي وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ) 

فَجَعَلَ شَهَادَةَ القَلْبِ بِلَا حُجَّةٍ أَوْلَى مِنَ الفَتْوَى، وَأَنَّهُ وَحْيٌ بَاطِنِي. وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَجْوِبَةٍ لَيْسَ هَذَا مَحَلُّ بَسْطِ الكَلَامِ فِيهَا. وَاسْتَدَلَّ الإِمَامُ السُّهْرَوَرْدِي عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ بِحَدِيثِ (إِنَّ مِنْ أُمَّتِي مُحَدَّثِينَ) أَيْ مُلْهَمِينَ (وَإِنَّ عُمَرَ مِنْهُمْ) نَقَلَ ذَلِكَ السُّيُوطِي فِي شَرْحِهِ لِنَظْمِهِ لِجَمْعِ الجَوَامِعِ. وَأَطَالَ التَّفْسِيرَ فِيهِ. 

وَإِنَّمَا نَصَّ الحَدِيثُ الشَّرِيفُ عَلَى أَنَّ عُمَرَ مِنْهُمْ لِمُوَافَقَةِ الوَحْيِ لَهُ فِي نَحْوِ سَبْعَةَ عَشَرَ قَضِيَّةٍ. وَذَلِكَ بِالإِلْهَامِ الحَقِّ لَهُ. وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الوَحْيِ. ثُمَّ الوَحْيُ بِهَذَا المَعْنَى غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالأَنْبِيَاءِ. بَلْ يَقَعُ لِغَيْرِهِمْ عَلَى مَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، الَّذِينَ لَمْ يُؤَوِّلُوهُ بِالإِلْهَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى) وَقَالَ تَعَالَى مُخَاطِباً لَهُ (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى. إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى) 

وَأُمُّ مُوسَى لَيْسَتْ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَمَعَ ذَلِكَ أَوْحَى اللَّهُ لَهَا وَلَوْلَا تَحَقُّقُهَا بِمَا أَوْحَى بِهِ إِلَيْهَا مَا أَلْقَتْ فَلَذَةَ كَبِدِهَا فِي اليَمِّ، وَلَا خَاطَرَتْ بِهِ فِي ذَلِكَ الخَطَرِ

وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الوَحْيِ الوَاقِعِ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ قَبِيلِ الإِلْهَامِ الوَارِدِ عَلَى الأَوْلِيَاءِ. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ، أَوْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ

فَلَا جَرَمَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْتَرِ عَلَيْهِ كَذِباً وَلَمْ يَقُلْ مَا قَالَهُ المُفْتَرِي عَلَيْهِ دَاخِلٌ فِي قَضِيَّةِ: إِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ، وَإِنَّمَا الدَّرْكُ عَلَى مُكَذِّبِهِ إِذَا كَانَ صَادِقاً، وَهُوَ الوَاقِعُ فِيمَا يَدَّعِيهِ العَارِفُ بِقَضِيَّةِ صَلَاةِ الفَاتِحِ مِنْ كَوْنِهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَلَمْ يَدَّعِ أَنَّهَا لَفْظُ قُرْآنٍ، فَإِنَّ القُرْآنَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَلَيْسَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى مَحْصُوراً فِيهِ، خِلَافاً لِمَا صَرَّحَ بِهِ الجَهُولُ ابْنُ بَادِيسَ فِيمَا سَيَأْتِي مَرْدُوداً عَلَى وَجْهِهِ.

وَأَمَّا قَوْلُ هَذَا البَغِيضِ فِي تَلْخِيصِهِ لِلسُّؤَالِ فِي عَرْضِهِ لِادِّعَائِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ثَوَابُهَا إِلَّا لِمَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ، فَهُوَ مَعَ رَكَاكَةِ التَّرْكِيبِ يُجَابُ بِأَنَّ خَوَاصَّ الأَذْكَارِ لَا يُنْكِرُهَا إِلَّا جَاهِلٌ غَرِيقٌ فِي بَحْرِ الجَهَالَةِ الضَّالَّةِ، لِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الأَسْرَارِ عَلَى أَنَّ الأَسْرَارَ مَنُوطَةٌ بِالأَذْكَارِ. وَعَدَمُ انْتِفَاعِ المُنْكِرِينَ بِهَا لَا يَضُرُّ بِثُبُوتِهَا لِغَيْرِهِمْ فِي الوُجُودِ، بِوِجْدَانٍ لَا يُدَاخِلُهُمْ فِي ذَلِكَ شَكٌّ، بِشُرُوطٍ مُقَرَّرَةٍ لَابُدَّ مِنْ مُرَاعَاتِهَا، وَعَلَيْهِ: فَاشْتِرَاكُ تَحْصِيلِ ثَوَابِ صَلَاةِ الفَاتِحِ بِاعْتِقَادِ كَوْنِهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى مَنْ أَرَادَهُ لَمْ يُنَافِ رُكْناً مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَلَا خَالَفَ قَاعِدَةً مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ حَتَّى يَلْتَفِتَ المُنْصِفُ إِلَى قَوْلِ هَذَا المُنْتَقِدِ عَلَى مُعْتَقِدِ ذَلِكَ مِنَ المُرِيدِينَ

وَقَدْ فَاتَهُ المَقْصُودُ مِنْ مَقْصِدِ النِّيَّةِ فِي تِلَاوَتِهَا بِعَدَمِ فَهْمِهِ، وَقِلَّةِ عِلْمِهِ، وَإِلَّا لَمَا تَعَرَّضَ بِاعْتِرَاضٍ فِي طَيِّ كَلَامِهِ عَلَى هَذِهِ المَسْأَلَةِ الَّتِي قَلَّمَا أَدْرَكَ مَعْنَاهَا خَوَاصُّ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ المُحَمَّدِيَّةِ التِّجَانِيَّةِ فَضْلاً عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ المُتَطَفِّلِينَ عَلَى المُرِيدِينَ فِيهَا.

 

  ــ قَالَ العَلَّامَةُ سَيِّدِي أَحْمَدُ سُكَيْرِجُ فِي كِتَابِهِ كَشْفِ البَلْوَى، فِي الرَّدِّ عَلَى مَجَلَّةِ التَّقْوَى: وَمِنْهُ مَا وَقَعَ لِلْخَضِرِ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّ الخَضِرَ لَيْسَ بِنَبِيٍّ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ فَعَلَ مَا فَعَلَهُ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ مَعَهُ صَبْراً، عَلَى مَا رَأَى مِنْهُ مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ وَخَرْقِ السَّفِينَةِ وَإِقَامَةِ الجِدَارِ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ آتَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ وَعَلَّمَهُ مِنْ لَّدُنْهُ عِلْماً. 

فَقَالَ لَهُ الخَضِرُ (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) وَلَا شَكَّ أَنَّ الأَمْرَ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى فِعْلِ مَا فَعَلَهُ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الوَحْيِ وَالإِلْهَامِ. وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِلَّا لَمَا سَاغَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ النَّفْسَ وَيَفْعَلَ مَا فَعَلَهُ بِحَضْرَةِ نَبِيٍّ، وَيَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَا فَعَلَهُ عَنْ أَمْرِهِ، بَلْ فَعَلَهُ بِأَمْرٍ إِلَهِي. وَذَلِكَ يَقَعُ لِلْأَوْلِيَاءِ وَلَا يُنْكِرُهُ إِلَّا الأَغْبِيَاءُ. إِلَى أَنْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلِلْعَارِفِ بِاللَّهِ سَيِّدِي عَلِي وَفَا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ:

سَـمِـعْتُ اللَّهَ فِي سِرِّي يَقُولُ    *    أَنَا فِي المُلْكِ وَحْدِي لَا أَزُولُ

وَحَــيْـثُ الـكُـلُّ مِـنِّي لَا قَبِيحَ    *    وَقُـبْحُ القُبْحِ مِنْ حَيْثِي جَمِيلُ

وَهَا أَنَا أَتَطَوَّعُ لِبَيَانِ ذَلِكَ لِيَرَى المُنْصِفُ مَا عَلَيْهِ هَذَا المَقْصِدُ بِالنَّظَرِ لِلْأَسَدِّ، فَيَتَحَقَّقُ بِكَوْنِ المُنْتَقِدِ ضَالّاً عَنْ رُشْدِهِ فِي العُثُورِ عَنْ الضَّالَّةِ المَنْشُودَةِ لِغَيْرِهِ فِي قُرْبِهِ وَبُعْدِهِ، وَاللَّهُ المُوَفِّقُ.

مَعْنَى كَوْنِ صَلَاةِ الفَاتِحِ

مِنْ كَلَامِ اللَّهِ القَدِيمِ وَاعْتِقَادِ ذَلِكَ

اعْلَمْ أَنَّ ثَوَابَ الفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ المَنُوطَ بِهَا ثَلَاثُ مَرَاتِبَ، مَرْتَبَةُ العَامَّةِ، وَمَرْتَبَةُ الخَاصَّةِ، وَمَرْتَبَةُ خَاصَّةِ الخَاصَّةِ مِنْ ذَاكِرِيهِمْ، يُشْتَرَطُ فِي الإِحْرَازِ عَلَيْهِ الإِذْنُ الخَاصُّ مِمَّنْ لَهُ الإِذْنُ فِي الإِذْنِ فِيهَا، وَاعْتِقَادُ أَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ حَضْرَةِ الغَيْبِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ خُلُوِّهَا حَتَّى مِنَ السَّلَامِ المَطْلُوبِ اقْتِرَانُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ. 

وَلَا شَكَّ أَنَّ جَمِيعَ الخَوَاصِّ عِنْدَ الخَوَاصِّ لَا يَحْصُلُ عَلَيْهَا إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا بِتَصْدِيقِ المُخْبِرِ بِهَا وَالعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا، وَلَيْسَ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَدِّقْ بِذَلِكَ شَيْءٌ سِوَى الحِرْمَانُ مِنَ الحُصُولِ عَلَى مَزِيَّتِهَا وَفَضْلِهَا، إِذَا لَمْ يُضِفْ لِحِرْمَانِهِ سُوءَ نُكْرَانِهِ، وَإِلَّا بَاءَ بِمَا بَاءَ بِهِ أَهْلُ الإِنْكَارِ مِمَّا هُوَ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ أَهْلِ اللَّهِ، وَقَانَا اللَّهُ شَرَّهُ

وَلَا عِلْمَ هُنَا لِلسَّائِلِ بِالشَّرْطِ الثَّانِي، الَّذِي هُوَ الإِذْنُ المُشَارُ لَهُ، وَإِلَّا لَزَادَهُ تَعَسُّفَ اسْتِنْكَافٍ وَاسْتِنْكَارٍ، أَوْ بَقِيَ وَاقِفاً فِي مَوْقِفِ المُتَرَدِّدِ إِقْبَالاً وَإِدْبَاراً، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى بَصِيرٍ أَنَّ السِّرَّ فِي الإِذْنِ، وَالنُّورَ يَسْرِي بِالإِجَازَةِ لِلْمُجَازِ مِنْ حَضْرَةِ الإِحْسَانِ، وَلَا يُنْكِرُ الانْتِفَاعَ بِهِ إِلَّا غَبِيٌّ مِنْ جِنْسِ الحَيَوَانِ، فِي نَوْعِ الإِنْسَانِ، وَلِذَلِكَ سَاغَ طَلَبُ الإِجَازَةِ مِنْ ذَوِي المَفَازَةِ بِهَا، فَارْتَبَطَ حَمْلُهُمْ بِأَهْلِهَا..

وَلَا اعْتِدَادَ بِمَنْ لَمْ يَدْرِ مَا اشْتَمَلَتْ   *   عَلَيْهِ مِنْ سِرِّهَا السَّارِي لِحَائِزِهَا

 

وَقَدْ قَالُوا: مَا وَجَدْنَا الأَسْرَارَ إِلَّا فِي الأَذْكَارِ، وَلَا سِرَّ إِلَّا بِتَلْقِينٍ، بِرَغْمِ ذَوِي الإِنْكَارِ. ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ صَلَاةَ الفَاتِحِ مِنْ جُمْلَةِ الصِّيَغِ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَجَتْ مِنْ حَضْرَةِ

  ــ إِلَى هَذَا أَشَارَ صَاحِبُ مُنْيَةِ المُرِيدِ بِقَوْلِهِ:

وَفَــضْـلُـهَـا يَـحْـصُلُ مَعْ شَرْطَيْنِ    *    مِــنْ ذَاكَ إِذْنُ الـشَّـيْخِ دُونَ مَيْنِ

ثُـــمَّ اعْـــتِــقَــادُ أَنَّـهَـا قَـدْ بَـرَزَتْ    *    مِنْ حَضْرَةِ الغَيْبِ لِمَنْ لَهُ سَرَتْ

وإِلَى هَذَا أَيْضًا قَوْلُ السُّلْطَانِ الأَسْبَقِ العَلَّامَةِ مَوْلَايَ عَبْدِ الحَفِيظِ العَلَوِي فِي الجَامِعَةِ العِرْفَانِيَةِ:

بِــشَـرْطِ إِذْنِ الـشَّـيْـخِ وَاعْـتِـقَادِ    *    بُــــرُوزِهَــا مِـنْ حَـضْـرَةِ الـجَـوَادِ

هَــذَا الَّــذِي سَـيِّـدُنَـا قَـدْ مُـنِـحَا    *    مِنْ حَضْرَةِ الرَّسُولِ فَانْحُ مَا نَحَا

الغَيْبِ كَرَامَةً لِصَاحِبِهَا البَكْرِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَيْسَتْ مِنْ تَأْلِيفِهِ وَلَا مِنْ تَأْلِيفِ غَيْرِهِ، فَهِيَ مِنْ صَلَاةِ اللَّهِ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 

فَتَالِيهَا إِنْ أَرَادَ تَحْصِيلَ فَضْلِهَا الخَاصِّ بَعْدَ الإِذْنِ لَهُ فِيهَا يَنْوِي بِهَا صَلَاةَ اللَّهِ القَدِيمَةَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأَزَلِ. فَقَدْ صَلَّى بِهَا الحَقُّ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ فِي حَضْرَةِ القُدْسِ، فَيَكُونُ تَالِيهَا هُنَا كَالحَامِدِ لِلَّهِ بِحَمْدِهِ القَدِيمِ، بِجَعْلِ [أَلْ] فِي الحَمْدُ لِلَّهِ لِلْعَهْدِ الَّذِي يَقُولُ بِهِ المُرْسِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا سَأَلَهُ ابْنُ النَّحَّاسِ وَقَالَ لَهُ: أَيُّ مَعْهُودٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَمَّا عَلِمَ الحَقُّ سُبْحَانَهُ عَجْزَ خَلْقِهِ عَنْ حَمْدِهِ، حَمِدَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ فِي سَابِقِ أَزَلِهِ، فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: احْمِدُونِي بِالحَمْدِ الَّذِي حَمِدْتُ بِهِ نَفْسِي. فَقَالَ: أشْهَدُ بِاللَّهِ يَا سَيِّدِي أَنَّهَا لَعَهْدِيَّةٌ.

وَكَأَنَ المُصَلِّي بِهَذِهِ الصَّلَاةِ الفَاتِحِيَّةِ فِي نِيَّتِهِ مُعْتَرِفاً بِالعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ حَقِّهِ بِصَلَاتِهِ عَلَيْهِ، فَطَلَبَ مِنَ الحَقِّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ بِصَلَاتِهِ القَدِيمَةِ، فَيَقُولُ تَابِعاً لِنِيَّتِهِ:

اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِتِلَاوَةِ صَلَاةِ الفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ الَّتِي هِيَ مِنْ كَلَامِكَ القَدِيمِ عَلَى صَاحِبِ الخُلُقِ العَظِيمِ، فَأَقُولُ مُصَدِّقاً لِقَوْلِكَ وَمُمْتَثِلاً لِقَوْلِكَ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ وَالخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ، نَاصِرِ الحَقِّ بِالحَقِّ وَالهَادِي إِلَى صِرَاطِكَ المُسْتَقِيمِ، وَعَلَى آلِهِ حَقَّ قَدْرِهِ وَمِقْدَارِهِ العَظِيمِ. 

فَقَدْ كَتَبْنَاهَا بِرُمَّتِهَا فِي هَذَا الكِتَابِ عَمَلاً بِمُقْتَضَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ: مَنْ صَلَّى عَلَيَّ فِي كِتَابٍ لَمْ تَزَلْ المَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ اسْمِي فِي ذَلِكَ الكِتَابِ، وَسَعَيْنَا فِي تِلَاوَتِهَا بِلِسَانِ المُطَالِعِ هُنَا قَاصِداً بِذَلِكَ نَفْعَ عِبَادِ اللَّهِ، وَالخَلْقُ عِيَالُ اللَّهِ، وَأَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ، وَتَنْكِيتاً لِمَنْ حَرَمَهُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهَا، لِيَسُدَّ عَيْنَيْهِ عِنْدَ الوُصُولِ إِلَيْهَا، وَلَا يَتَلَفَّظَ بِهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، مِثْلُ البَغِيضِ ابْنِ بَادِيسَ وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِ مِنَ المُبْغِضِينَ فِي الجَنَابِ المُحَمَّدِي وَالمُعْرِضِينَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ،

الَّتِي قِيلَ فِيهَا هِيَ الصَّلَاةُ الوُسْطَى فِي أَحَدِ تَفَاسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الوُسْطَى

فَلْيَقُمْ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ فِي الاعْتِرَاضِ عَلَى مِثْلِ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ مَنْ يُصْغِي إِلَيْهِ مِمَّنْ جَبَلَهُمْ اللَّهُ عَلَى الإِنْصَافِ. وَسَيَأْتِي فِي الأَبْحَاثِ بَعْدَ هَذَا بِحَوْلِ اللَّهِ مَا يُنْكِيهِ وَيُبْكِيهِ، رَدّاً عَلَيْهِ فِيمَا يَتَقَوَّلُهُ وَيَحْكِيهِ. وَاللَّهُ حَسِيبُهُ فِي تَكْفِيرِ التِّجَانِيِّينَ وَتَضْلِيلِهِمْ بِمَا هُوَ رَاجِعٌ عَلَيْهِ فِي التَّكْفِيرِ وَالتَّضْلِيلِ. وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ.

Visited 1 times, 1 visit(s) today
[mc4wp_form id="5878"]
Close